29 تشري 5637
عزيزي أهارون هرشل،
إنك تلمِّح إلى أنني لم أتوغل بما يكفي في رسالتي الأخيرة. وأنت تريد أن تعرف كيفية ممارسة إفراغ الذات. فإذا ساعدتك الإجابة على المواظبة على الرياضة، هذا حسن. أما إذا ألهتك عنها، فلا تهتم بالكيفية وواظب على الرياضة. فالحكمة التي تطلبها لن تأتيك من العلم المجرَّد، إنما من الخبرة المباشرة وحسب. ومع هذا، إليك كيفية عملها.
بمراقبة الأنفاس نهدِّئ الذهن. إن حسَّنا بالانفصال والكيان المستقل ناجم عن ثرثرة الذهن التي لا تتوقف. عندما نقعد وحسب، نراقب ونتنفس، عندما نمتنع عن اللحاق بهذا الخاطر أو الشعور أو ذاك، ونجيز لها ببساطة أن تبرز وتسقط من تلقاء ذاتها، فإن الذهن يتوقف ببطء عن ثرثرته. عندئذٍ تبزغ سكينة عميقة ويتوقف الفكر.
عندما يتوقف الفكر، تتوارى الذات. هذا ما عناه المنشد عندما أنشد: "كلتا نفشبي [تذوب نفسي] (المزمور 84: 3). "الأنية" – أني – تصير "فارغة" – أين (بالعبرية الكلمتان تُكتَبان بالحروف الثلاثة عينها: ألف، نون، يود). وهذا ما يدعوه حكماؤنا بِتُّل شِمي عفر لِتعَم فَدعَة، الفناء عن العقل والعلم، نهاية الفكر.
على ألا تتصور بأن نهاية الفكر هي نهاية الأمر. فإن انحلال الذات ليس بعد امتلاء الله. أفُداه بِبتُّل، الإفراغ التأملي لـيش في أين، يجد تمامه في تِكُّن هَعولَم، رتق عالم يش بالمحبة والعدل. إننا، إذ نُفرَغ من الأنا، نختبر محبة لاأنانية لكل الأشياء بوصفها امتداداً لله. وإذ تغمرنا المحبة، نعود عودة طبيعية إلى عالم يش حيث يمكن الإعراب عن هذه المحبة. نشعر بأننا مكلَّفون بجلب خبرتنا للوحدانية والمحبة والعطف لنجابه عالم يش، عالم الكائنات المتفارقة ظاهرياً.
إن إفراغ الذات ورتق العالم بالمحبة وجهان للرياضة الروحية عينها. إننا لا نسعى إلى الهروب من العالم، بل نسعى إلى تحويله. وإننا نفعل هذا بالاعتراف بأننا مركبة الله للكشف عن القداسة والعمل بما يقتضيه ذلك.
بشالوم.
***
4 تفيت 5637
عزيزي أهارون هرشل،
لقد عبَّرتْ رسالتك الأخيرة ببلاغة عن سرورك لدى اكتشاف وحدة بِتُّل وتِكُّن، إفراغ الذات ورتق العالم، ولسوف أفعل ما بوسعي لاستكشاف هذا معك أبعد.
إن مهمة كل إنسان، على غرار الملائكة الصاعدة والنازلة على سلَّم يعقوب، هي أن يتعلم رَتسو فَشوف، الصعود والنزول. رَتسو، الصعود، يعني إدراك العالم من فراغ أين. شوف، النزول، يعني إدراك العالم من امتلاء يش، الكيان المنفصل. الأول يتم عبر ممارسة أفوداه بِبِتُّل، والثاني عبر ممارسة تِكُّن هَعولَم.
ومع أني أتكلم على هذين بوصفهما رياضتين منفصلتين، فهما في الحقيقة شيء واحد. إن إفراغ ذاتنا المنفصلة يوقظنا إلى وحدة الكل في الله. وحسُّ الوحدانية هذا يُختبَر كمحبة عميقة لكل الخلق وحسّ بالاستخلاف (متسَفِه) للكشف عن الله. في العالم برؤية أن العالم مشكَّل بالمحبة والعدل.
اليهودية ليست فقط طريق بِتُّل. إنها أيضاً طريق تِكُّن. وهذا هو المعنى من وراء وصية الله: "كونوا قديسين، لأني أنا الرب إلهكم قدوس" (الأحبار 19: 2). ينبغي علينا أن نكون بطريقتنا كما هو الله بطريقته. كيف؟ النبي ميخا يكشف لنا هذا: "قد بيَّن لك أيها الإنسان ما هو صالح وما يطلب منك الرب. إنما هو أن تعدِل وتحب الرحمة وتسير بتواضع مع إلهك" (ميخا 6: 8).
على المرء، لكي يعدل، أن يعرف تنوع الخلق ويكرِّمه. العدل هو تأسيس وسائل منصفة ومقسِطة للتعامل بين الكائنات. العدل هو التدبير الصحيح لعالم يش. ولكي نعدل، علينا أن نتعلم احترام وتكريم الكيانات المنفصلة ظاهرياً التي يضمها عالم يش، من بشر وغيرهم.
ومحبة الرحمة هي أن نأتمر بالعطف. ينبثق العطف من حسٍّ بالاشتراك في الألم. والألم المشترك ينبثق من صحوتنا إلى الوحدانية التي ينطوي عليها التنوع.
والسير بتواضع هو أن نفعل ما ينبغي فعله. وكلما ازددنا فراغاً من الذات، صرنا أكثر امتلاءً بالغاية. كل لحظة تخاطبنا بفرصة لتقديس الحياة.
فإذا كنا من الفراغ بما يكفي لسماع الخطاب، كنا من القوة بما يكفي لإنجاز المهمة. بهذه الطريقة، تصير بتُّل (إفراغ الذات) هي تِكُّن (رتق العالم).
بهذه الطريقة، يصير كل منا قديساً. ذلك تحدٍّ صعب ما في ذلك ريب. لكنه تحدٍّ يستحق أن تبذَل من أجله أسمى الجهود.
بشالوم
***
15 كسلف 5638
ابني الغالي،
هل لي أن أدعوك ابني؟ يقول حكماؤنا إن الوالد هو مَن يربي الولد، ولا يكتفي فقط بإنجابه. ألم أحظَ بشرف تربيتك بعض الشيء؟ أجيز لنفسي زهوَ أن أظن ذلك.
لقد انقضى وقت ليس بالقصير منذ أن كتبت إليك آخر مرة. وصلتني رسائلك وقرِئت لي، وذلك لأن عينيّ بدأتا تظلمان. كنت أضعف من أن أستطيع التفكير بوضوح وأتعب من أن أجيب. وهذه الرسالة يكتبها عني أحدهم.
عزيزي أهارون هرشل، أنا أحتضر. ما من طريقة سهلة لقول هذا. فإلى أن تقرأ هذا، أظنني سأكون في عداد الأموات. وأنا مستعد للموت. طوال حياتي الراشدة سعيت لأن أحيا منتبهاً للَّحظة ومستجيباً بذاتي كلها لكل ما تقدِّمه الحياة. الآن فقط سوف أتمكن من بذل نفسي بذلاً تاماً.
الموت هو إفراغ الذات الأخير، ولدى من يمارس أفُداه بِبتُّل ليس الموت بالغريب الذي يُخشى بل صديق يعانَق. الكثير يتوقف على ممارستك لـ أفُداه بِبتُّل، يا أهارون هرشل. اجعل كل لحظة لحظة بِتُّل، إفراغ ذاتك لكي تتسع للآخرين. لا تنصرف عنه.
أنا متعب وأستميحك العذر إذا لم أجب عن الأسئلة العديدة التي طرحتها في رسائلك الأخيرة. لا أكتب الآن إلا لأقول وداعاً ولأشكرك على محبتك. فما من شيء يعتزُّ به الرباني أكثر من طالب تبلغ به الثقة حدَّ السؤال.
اسمع، بنيَّ: الموت حقيقي في هذا العالم. لا تنكره. لا تغطِّه بأحلام عن جن عدن (الآخرة) أو جلجول (التقمص). كل هذا هو إنكار لحقيقة الموت البسيطة: الوجود مؤقت، وانقضاؤه غالباً مأساوي. لكن يش ليس الحقيقة كلها.
عندما ننظر إلى العالم من منظور يش، نرى الولادة ونرى الموت. إنما عندما ننظر إلى العالم من منظور أين، لا ولادة ثمة ولا موت. يش وأين، الوجود والفراغ، هما قطبا وحدانية الله الأعظم. وحده الله حق، إذ وحده الله كامل وتام: أجل، رِبْ يراشميل بن يتسرائيل ماضٍ، لكن الواحد الذي لبس وجهَه هذه السنين العديدة حاضر أبداً. وهذا الواحد يلبس وجهك أيضاً، يا صديقي العزيز. فما نحن إياه حقاً هو الله متجلِّياً في الزمن (يش) والأبدية (أين). اعلم هذا، عِشْ هنيئاً، ومُتْ بسلام.
لقد كنتَ بركة لي أكبر مما تستطيع الكلمات نقله. تذكَّر أن الحب أقوى من الموت (نشيد الأناشيد 8: 6). قريباً سوف أمضي. فلتقوَ محبتنا أبداً.
بشالوم